كلنا نحتاج في لحظة ما إلى كلمة تحملنا على أكتافها، أو جملة بسيطة تطفئ حرائق أرواحنا. أن تواسي شخصاً متعباً بالكلام، هذا يعني أنك تقدّم له جرعة حياة، بلا وصفة، بلا دواء، فقط بحروف صادقة.
لكن كيف نفعل ذلك؟ دعنا نمشي معاً خطوة بخطوة، كمن يزرع حديقة، ويعرف أن كل زهرة تحتاج لماء مختلف.
أولاً: الإصغاء قبل الكلام
أتعرف ما يشبهه الإصغاء؟
يشبه أن تضع أذنك على صدر الأرض لتسمع قلبها.
حين تجلس مع إنسان متعب، لا تسبق كلماتك صوته. لا تحاول أن تملأ الصمت فوراً.
العلم يقول: الإصغاء العميق يقلل من هرمونات التوتر (الكورتيزول) ويزيد هرمون الأوكسيتوسين، وهو هرمون الترابط والطمأنينة.
نصيحتي لك:
دع صديقك يتحدث حتى لو كان كلامه متقطعاً أو مبعثراً. كل كلمة منه كحجر صغير يريد أن يزيحه من صدره.
ثانياً: البساطة في الكلام
الكلمات المعقدة وقت التعب تزيد التعب.
لا يحتاج من أمامك إلى خطبة طويلة، بل إلى جملة قصيرة كالماء البارد:
"أنا هنا معك."
"ممكن تحكي لي أكتر؟"
"مش لوحدك."
البساطة ليست ضعفاً، بل قوة. مثل ضوء القمر، بسيط لكنه ينير ليل الغريب.
ثالثاً: لمس القلب لا العقل
هناك كلمات تدخل الدماغ ثم تنزلق خارجه، وهناك كلمات تسكن القلب فلا تخرج.
الكلمة المطمئنة هي تلك التي تلامس الجرح بلطف.
مثلاً:
بدلاً من أن تقول له: "لازم تكون أقوى!"
قل: "من الطبيعي إنك تحس بالتعب… كل إنسان بيعدي بلحظات زي دي."
هنا يتحول الألم من عارٍ إلى إنسانٍ، من شعورٍ غريب إلى تجربة مشتركة.
رابعاً: استعارة من الطبيعة
الكلمات الجميلة ليست شعراً فقط، بل بلسم.
قل له:
"أنت مثل شجرة في الشتاء، تبدو عارية، لكن في داخلك بذور تنتظر الربيع."
أو:
"المطر لا يستأذن، لكنه دائماً يترك وراءه خضرة."
هذا التشبيه يفتح نافذة جديدة في عقل المتعب، ويمنحه صورة أمل أبسط من أي تحليل مطوّل.
خامساً: الصمت أحياناً أبلغ من الكلام
هل تعرف أن العناق أحياناً يواسي أكثر من ألف كلمة؟
حتى العلم يؤكد أن اللمسة الحانية تقلل من القلق وتزيد الثقة.
إذن، لا تخف من أن تصمت بجانبه، أو أن تقول بصوت هادئ:
"مش لازم تحكي كل حاجة دلوقتي… أنا قاعد معك وخلاص."
الصمت هنا ليس فراغاً، بل امتلاء بالحضور.
سادساً: تجنّب الجُمل المؤذية رغم حسن النية
هناك كلمات تخرج منّا ونحن نظنها عزاء، لكنها كالسكاكين:
"في ناس حالتهم أسوأ منك!"
"انسى وخلاص."
"شد حيلك!"
هذه الكلمات لا تواسي، بل تزيد الحمل.
تذكّر: المواساة ليست مقارنة ولا درساً في الصبر، بل احتضاناً بالكلمة.
سابعاً: اسحب الضوء من الداخل
أحياناً الشخص المتعب لا يرى إلا عتمته.
فكن أنت المرآة التي تذكّره بما يملك:
"أتذكر وقت كنت واقف جنبي لما احتجتك؟"
"أنت إنسان طيب… وده مش كلام مجاملة."
حين تُظهر له نوراً في داخله نسيه، فأنت تساعده على أن يتنفس من جديد.
ثامناً: العلم خلف الكلمة الطيبة
هل تعلم أن الدراسات النفسية تثبت أن الكلام المشجّع يفعّل مراكز المكافأة في الدماغ، تماماً مثل الطعام اللذيذ أو الموسيقى الجميلة؟
يعني أن كلمة "أنا أثق فيك" يمكن أن تُشعل الكيمياء الداخلية للشخص وتعيد له طاقة صغيرة جداً لكنها حقيقية.
فلا تستهين أبداً بجملة صادقة، ربما هي الفيتامين الذي يحتاجه قلبه.
تاسعاً: الأمل كحبة دواء
لكن انتبه، الأمل ليس وعداً كاذباً.
لا تقل له: "غداً كل شيء سيكون رائعاً" إن لم تكن متأكداً.
بل قل: "ممكن يكون الطريق صعب، لكن أنا مؤمن إنك تقدر تمشيه خطوة بخطوة."
الأمل الواقعي مثل شمس الشتاء: لا تحرق، لكنها تدفئ.
عاشراً: أنت مرآة، لا بطل خارق
المواساة ليست أن تحل مشاكله، بل أن تشعره أنه ليس وحيداً فيها.
لا تُحمّل نفسك أكثر مما تستطيع.
قل له:
"أنا مش قادر أحل كل حاجة، بس أقدر أكون معك في الطريق."
هذا الاعتراف يخلق مساحة صدق، ويُشعره أنك بشر مثله، لا قاضٍ ولا معلم.
حادي عشر: قوة الدعاء والنية الطيبة
حتى لو لم يكن المتعب متديناً، الدعاء بصوت صادق مثل:
"يا رب يخفف عنك"
قد يدخل إلى قلبه دون مقاومة.
العلم يصف هذا بـ "التأثير العاطفي عبر القبول الاجتماعي"، أي أن مجرد إحساسه أنك تدعو له، يعني أنك تريده بخير، وهذا يبعث الدفء في النفس.
ثاني عشر: لا تنس نفسك
وأنت تواسي الآخرين، لا تهمل قلبك.
المواساة ليست استنزافاً، بل مشاركة.
إن شعرت أنك أصبحت مثقلاً، توقّف، خذ نفساً، وامنح نفسك بعض الكلمات التي تعطيها للآخرين.
خاتمة: الكلمة بيت صغير
في النهاية، يا صديقي، المواساة بالكلام ليست علماً فقط، ولا شعراً فقط، بل هي مزيج من القلب والعقل، من العلم والرحمة.
الكلمة التي تخرج صافية تصبح بيتاً صغيراً يسكن فيه المتعب لحظة، حتى يجد قوته ليكمل الطريق.
تذكّر:
لا تحتاج لتكون شاعراً كبيراً، ولا طبيباً نفسياً، يكفي أن تكون إنساناً صادقاً، يسمع، ويبسط كفّه بكلمة:
"أنا معك."